شبح حي
كنت في العاشرة من عمري حينما حلت على أبي
كارثة أودت بحياة حبيبته الوحيدة، أمي.
كنا في طريق العودة من المدرسة بعد ليلة
طويلة من اجتماع في المدرسة لأهالي الطلاب، كان ابي غضبان مني، يصيح في وجه أمي
دون اسباب مقنعة، وحينما حاولت ان امنعه من الصراخ عليها التفت لي برأسه ورماني
بتلك العيون الصارخة من الغضب وقال :لولاك أنت ايها الغبي لما صرخت على أمك، الحق
عليك"
وما هي ثوان سريعة حتى التحمت مقدمة السيارة
بشاحنة ضخمة في طريقها الى المكان الذي من المفترض ان تصل اليه بعد ساعات طويلة
على الطريق السريع.
سيارات الإسعاف في المكان، فالحادث لم يقتصر
فقط على سيارتنا وتلك الشاحنة الضخمة، ب كان على الطريق هناك اربعة سيارات غيرنا،
وكلها كانت في مكان الحادث، تلك السيارات الأربعة ايضا كانت في طريق عودتها من
المدرسة.
كانت أمي بنصف جسد، فنصفها الأخر في السيارة،
أما أبي فكان مصابا بإصابات خطيرة جدا لكنه نجا إلا أمي، ونجوت أنا حمداً لله.
قضى أبي اشهرا معدودات في المشفى في حين ان
جسد أمي كان تحت التراب ليتحول الى رماد قريباً.
ومن تلك الحادثة وأبي لا يتحدث معي وكأني لست
موجوداً، بعدما تعافى أبي وعدنا الى المنزل كان حزينا جدا لدرجة أنه لم يكن يتناول
طعامه جيدا، ولدرجة أنه كأنه يهجرني في الكلام، لم اسمع صوته الى الأن وها قد مضى
على تلك الحادثة ما يقارب الشرة اعوام، اصبحت في العشرين من عمري وأبي يعتبرني غير
موجود في المنزل.
حتى أنني اصبحت غريبا على هذا البيت الذي اقل
ما يقال عنه أنه منزل.
كان يخرج من المنزل دون ان يعلمني بخروجه،
وكان يذهب ليلتقي صديقه دون أن يأخذني معه كما كان معتاداً قبل عشرة اعوام.
فيه شيء يحيرني، الى هذه الدرجة هو غضبان
مني! الى هذه الدرجة ينكر وجودي بقوة، حتى انه هجر غرفتي وكأنها ليست موجودة من
ضمن غرف المنزل المهجور هذا.
بالتدريج تحولت انا ايضا الى شخص لامبال
بعدما كنت أبالي في كل شيء، ولي مدة طويلة قد هجرت تلك المرآة التي عشقت فيها
صورتي، فأنا في طفولتي كنت نرجسياً، اتأمل انعكاسي بكثرة حتى ان امي كانت تصيح بي
كثيرا لنرجسيتي تلك.
لكنني الآن في العشرين من عمري ولم اعد اهتم
بهندامي ولا بشعري الأشقر ولا بعينيي .
كانت نرجسيتي تلك سببها أمي، ف بعمر الخامسة
كانت امي تخبرني وتسمعني كل ليلة كم انا جميل.
لم اعد المس روحي كما كنت افعل، ولم اعد
اتأمل ملامحي التي عشقتها أمي وبالتالي عشقتها انا لدرجة انني كنت اتحول الى شخص
أناني، وكان ابي دوما يتشاجر مع أمي لأنه حسبما يعتقد أنها دللتني كثيرا وبما فيه
الكفاية.
نعم نرجسيتي حولتني الى اناني..الى طفل قاس
جدا، لكنني الآن في مرحلة لا تسمح لي بان اكمل دور الأناني، وفي وضع لا يتقبل ان
اكون انانيا، فوالدي ما زال يشعر بالأسى اتجاه ما حدث، فمن انا لأخبره عن مدى
احتياجي لمن يهتم بي.
لكنني لم اعد أبالي، فتباً لنرجسيتي ووجهي
الذي كان وسيما. كانا سببا في موت أمي وموت مشاعر أبي.
خرجت من المنزل علني أجد راحتي فيها كما هو
حالي طوال هذه الأعوام المنصرمة، المليئة بذكريات لأمي والمليئة بهجران أبي لي
وتركي وحيداً دون أن يعتني بي، دون أن يعي تماما أنني ما زلت هنا، أعيش معه في ذات
المكان، واتناول ذات الطعام، وهو طباخ ماهر، يستطيع عجن عجينة البيتزا مثلا بكل
مهارة وحماس، وكان يحضر أطيب المأكولات خاصة تلك الشرقية...كان يعشق ما يسمى
بالأكل.
لكنه تخلى عن عادته الجميلة، تخلى عن
ابتسامته التي لطالما كانت تحيي هذا المنزل، والآن صار منزلا خاويا من الروح، لا
يُسمع فيه سوى صوت أنفاسنا المهدمة، وصوت السكون الرهيب.
سرت لساعات طويلة في شوارع الحي دون ان اشعر
بالتعب، ككل مرة اسير فيها لوقت طويل.
لا عرق يتصبب مني، لا أنفاس متعبة تحرق صدري،
ولا شعوراً بالعطش كبقية الاشخاص اللذين يسيرون، وانا كنت اسير دون اهتداء لمكان
أرسي فيها روحي المتعبة من السير الطويل.
لا أحد ينظر لي، إنني اقف بين جموع من الناس
التفوا حول بقايا سيارة سوداء صغيرة، حادث أخر من تلك الحوادث الشنيعة، وحسبما
سمعت ممن حولي كان السائق مخمورا وابنته التي لم يتجاوز عمرها العاشرة تقف قريبة
من السيارة وتبكي بحرقة كما بكيت أنا قبل عشرة أعوام، لربما تبكي على نفسها لمَ لم
تمت مع أبيها، أو انها تبكي على أبيها، او على الهلع الذي يسير في جسدها الآن
ويتنقل بكل حرية في أعماقها.
لكنها رأتني، اخيرا هناك من عبرني وانتبه
لوجودي، اقتربت منها بصمت مطبق، مسحت دموعها وسألتها عن اسمها
"ليان"
"وانا علاء...ماذا حصل؟"
"لقد تشاجر مع أمي البارحة، ثم في الصباح طرده مديره من العمل ،وبعد أن تم طرده ذهب الى الحانة وبدأ بالشرب، ومن ثم عاد الى المنزل وأخذني، وها هو الآن ميت"
حادث شنيع جدا، الطفلة وجهها باللون الأصفر
ويرتعش جسدها بالكامل.
مسكت يدها برفق وقلت لها "ما رأيك بأن
نذهب الى المستشفى مع سيارات الإسعاف، لعلنا نطمئن على أبيك"
هزت برأسها معلنة الموافقة، سرنا سويا بكل
بطء خلف سيارة الإسعاف التي تحمل جسد ابيها ، إنه بين الحياة والموت.
اشعر بانقباض في صدري..وما زالت ليان ترتعش
بشكل غير طبيعي.
دخلنا الى المستشفى مع سيارة الاسعاف رغم ان
الطريق الى المشفى كان طويلا، لكننا كنا نتمشى بكل هدوء وكان الوقت ليس موجودا،
كأن العالم سيرع جدا لدرجة أن هذه السرعة تجعل منه شديد البطئ.
لكنني لم اعد ابالي بالوقت، فهو لم يعد
موجودا، لهذا كل ايامي متشابهة.
وصلنا نحو غرفة الطوارئ، اربعة أطباء وسبعة
ممرضين، الأب يتنفس بصعوبة ويصرخ من الألم، وجسد الإمرأة التي كانت في السيارة
الأخرى ينزف بقوة.
واصوات الضجيج وحدها تعلن بأن الموضوع أخطر
مما نتصور.
هتافات آتية من أخر ممرات المشفى، صياح وبكاء
ونواح، رجل يبكي بحرقة على ارض المشفى بعدما أعلن له الطبيب بأن زوجته ماتت
بالجلطة.
وليان بجانبي تبكي بحرقة وصمت، دموعها ساخنة
قالت لي بنبرة لم افهمها "علاء، انا لا
احد لدي سوى أبي، ومنزلي لا عودة لي إليه، هل استطيع ان اذهب برفقتك الى البيت، لا
اريد أن ابقى هنا ، إني اشعر بالإختناق من المكان، والتوتر يزداد بشكل قاسي"
حدقت بها، تأملتها بابتسامة عابرة، ملامحها
الحنطية الطفولية، صوتها الرقيق، وعيونها الغارقة بأشعة الشمس حينما تضرب الرمال
بكل حب.
لقد اغرمت بتلك الفتاة الصغيرة، شددت يدها
وسحبتها بسرعة الى منزلي.
وحينما فتحت باب المنزل رأيت أبي يرتدي
ملابسا جديدة، إنه يرتدي بدلة سوداء اللون بربطة عنق زرقاء، إن هذا الرجل وسيم،
لمَ لم الاحظ وسامته طوال تلك الاعوام ؟
"أبي....الى اين انت ذاهب؟"
لكنه لم يجاوبني، اكتفى بالصمت وتأمل نفسه في
المرآة الحائطية الطويلة، وابتسم بقوة.
شعرت بقشعريرة تسير في جسدي كلها حينما دخل
غرفتي، وجلس على السرير يتأمل جدران الغرفة ويده تداعب غطاء السرير بحنية.
همست ليان "إن والدك يتجاهلنا "
بل إن والدي لا يرانا..حينها بدأت أتسائل لمً
لم يعبرنا "أبي لقد أحضرت ضيفة معي"
لكنه لا يسمعني، هل هو مصاب بالصم؟ شعرت
بالغضب فصحت به حتى اهتزت جدران الغرفة ووقعت تلك الساعة المعلقة على الحائط فرجف
جسد ابي بالكامل وتصبب عرقا "علاء...ارجوك أهدأ، انت لم تفهم بعد.."
"اخيرا سمعت صوت" قلت بانفعال.
لكنه لا يحدق بي مباشرة، بل يدور بعينيه حول
المكان كأنه يبحث عن شيء.....لحظة....إنه يبحث عن مصدر الصوت، يبحث عني.
اقتربت منه بتعجب، لوحت بيدي أمام وجهه لكنه
لم يشعر بي.
قال وهو مفزوع "علاء سامحني، لقد حاولت
كثيرا أن افهم...لكننا على ما يبدو أننا لن نفهم اساسا ماذا حدث معك"
مسكت ليان يدي وقالت "علاء أنت
تتلاشى"
نظرت الى يدي، الجزء السفلي من جسدي صار فارغا،
لا شيء هناك...انا بنصف جسد فقط
"لقد كانت ذاكرتي هي التي تنعشك، كلما
خطرت في رأسي كلما ازددت قوة يا علاء، وكلما شعرت بأنك على قيد الحياة، وحينما كنت
انساك ليوم مثلا، كنت تشعر بالوهن، ذاكرتي هي التي جعلك على قيد الحياة، لكنني يا
ولدي لا أتحمل أن يبقى عقلي مشغولا بك وبأمك.."
"لم أفهم..وضح لي أكثر"
مسح ابي جبينه ونهض قائلاً "أنت ميت منذ
عشرة أعوام، ولكنك ما زلت شبحا يعتقد انه على قيد الحياة."
حدقت بليان لأجدها تبتسم لي ببلاهة لتقول لي
بسعادة
"إذن نحن أشباح"
بل انا شبح منذ عشرة اعوام يعتقد انه على قيد
الحياة وأن والده والجميع يتجاهلونه، لكن انت ايتها الطفلة، فهذا أول يوم لك ك
شبح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق