سلسلة مما أكتب
رسائل إلى كتونيا:
إنني أكتب قصة مختلفة عن كل القصص التي نسمع
عنها أو حتى تلك التي نشاهدها على التلفاز في أفلام هوليوود التي قدمت لنا اقوى
الأفلام وأحلاها ولربما أسخفها.
لن أتحدث عن تلك الأفلام التي تجسد بعضا من
الواقع، بل سأحكي قصة تتعلق بشقيقتي..يبدو أنها ستصبح يوما ما فيلما نعتاد على
مشاهدته كل يوم دون أن نشعر بالملل.
شقيقتي تدعى كتونيا، مصابة بمرض نادر جداً
جداً حتى أنني أشك بوجوده.
كتونيا لا تعرف أي شيء عن كتابتي لقصتها هذه،
وإن عرفت فهي سوف تنساها في اليوم التالي، تعيش نفس اليوم كل مرة، كل اسبوع تعيد
نفس المواقف التي عاشتها من قبل.
منذ وفاة والدتي وانا اعتني بها. أبي هجرنا
منذ الطفولة، لهذا أصبحت أنا الأب والأم لكتونيا، فهي لا تعرف أحدا سواي، وحتى إن
تعرفت بشخص جديد في حياتها فهي سوف تنساه كليا، حتى ملامحه لن تبقى عالقة في
الذاكرة الخفية في المخ.
لكنني أنا الشخص الوحيد العالق في ذاكرتها
مهما طالت الأيام ومهما تقدمنا في السن.
تستيقظ كل يوم في نفس التوقيت، الساعة
الثامنة صباحاً، تحتسي كوبها الأول من القهوة وبعد دقيقتين من انهاءه تعيد الكرّة،
تصنع لنفسها الكوب الثاني لكن بالنسبة لها هو ما زال الكوب الأول.
بعد القهوة تأخذ حماما ساخناً وبعد ربع ساعة
تأخذ حماما آخرا.
لكنني أحاول أن أمنعها من التكرار ، ومنعي
هذا يسمح لها بالتساؤل أي نوع من الإخوة أنا ! امنعها من الإستحمام.
لكنني أخبرها بحجج كثيرة، أن الماء مقطوع
عندنا في المنزل مثلا، أو أنها سوف تتصبب عرقا لاحقا فالاستحمام صار أمرا مفروغ
منه.
لهذا تصمت في كثير من الأحيان لكنها تعيد
الكرّة لاحقا حينما لا أكون في المنزل.
بعد الإستحمام نذهب سويا الى الشاطئ، تقف
قبالة أشعة الشمس المتوهجة بلطف، تسمح لتلك الأشعة بالمساس ببشرتها الحنطية،
وبالتعمق بعينيها البنيتين، وتأخذ اربعة أنفاس طويلة عميقة، في كل مرة نأتي فيها
الى هنا تفعل نفس تلك الطقوس التي تخصها فقط، وحينما احاول تقليدها تنفعل بشكل
اصطناعي ثم تعود الى طبيعتها، كأن هذه الحركات مخصصة لها فقط.
طقوسها هذه تعقدني، بل تشعرني بأن لا حيلة لي
.
ذات يوم حينما كنا جالسان على الرمال الدافئة
وجدت زجاجة فيها رسالة، كانت مذهولة
"راكان انظر" تقولها بنبرة ذهول.
اتأمل تلك الزجاجة التي يبدو عليها انها
قديمة، لربما نسيها أحد العاشقين على الرمال هنا، لعل حبيبته تقرأها يوما ما، لكن
الزجاجة كانت من نصيب كتونيا.
فتحت الزجاجة، أخرجت منها الورقة الحمراء
وفتحتها "إلى... إنني أجلس كل ليلة على الرمال كعادتي، اتأمل ملكوت الله
المتشكل على هيئة بحر عميق، يذيب كل مكنونات صدري، أخي يجلس بجانبي ينتظر إشارة
مني لنتحرك...لعلنا نعود الى منزلنا باكرا كي لا تقتلنا أمنا، نسيت إخبارك، امي
ليست على قيد الحياة وأبي هجرنا منذ الطفولة، ولا أتذكر انني اعرف اي احد سوى
شقيقي الأبله هذا، وبالمناسبة...أيضا، لقد نسيت اسمه...."
طوت الورقة مرة أخرى كما كانت، ثم أعادتها
داخل الزجاجة وتركتها بقربها ثم حدقت بي طويلا وبكل هدوء قالت وهي تستنشق نسيما
باردا اخترقنا للتو "هيا لنعد الى المنزل، وإني اشعر بالشفقة على هذا العاشق
الذي نسى ان يرمي بالزجاجة الى البحر، ارجو من حبيبته أن تجد الرسالة، فهو على ما
يبدو انه يحبها بقوة"، ثم ابتسمت لي وتأملت للمرة الأخيرة تلك الزجاجة التي
ترتاح على الرمال مثلنا ونهضت واردفت "إني متعبة يا راكان، هيا بنا الى
المنزل"
شعرت بوكزة في صدري لا اعرف تفسيرا لها،
لكنني نهضت بسرعة خلفها وعدنا الى المنزل.
في اليوم التالي نفس الطقوس ونفس الوجوه ونفس
الحركات، اشعلت سيجارتي العاشرة وتأملت صورة لأبي وأمي وهما معا، شعرت بخيبة أمل،
لا احد يعتني بكتونيا مثلي، ولا احد اعتنى بها كما فعلت.
رميت عقب السيجارة في المكان المخصص لها
وتوجهت برفقة كتونيا سيرا على الاقدام الى الشاطئ، ترغمني على السير رغم ان
المسافة بين المنزل والشاطئ طويلة جدا لكنني اتحمل، فهي شقيقتي الوحيدة، واعتبرها
جزءا لا يتجزأ مني.
بعد ساعات امضيناها على الشاطى بملل نتأمل
البحر الصارخ، والهواء يصرخ بأرواحنا بلطف، وجدت زجاجة أخرى، قرأتها بحماس، وكأنها
للمرة الأولى تقرأ رسالة مثل هذه.
كانت عيونها تخبرني كم هي متحمسة ، كم هي
مذهولة، ثم اخبرتني بأنها تشعر بالشفقة على هذا العاشق الولهان.
يوما بعد يوم، زجاجة بعد زجاجة، رسالة تتلوها
رسالة، اكتشفت انها تقرأ رسائلها لنفسها، فأنا نسيت إخباركم انها تقضي طوال تلك
الساعات هنا وهي تكتب رسالة مختصرة جدا، ترميها في البحر، ثم تعود الى المنزل، وفي
اليوم التالي تكتشفها لأول مرة ثم تقرأها.
وكم شعرت كتونيا بخيبة أمل حينما قرأت انها
تكتب لنفسها، وحينما اكتشفت انها هي المرسلة، وأن الرسائل لها، انهارت كل
الانهيار، وبدأت تصرخ بقوة صراخا يصم آذاني، بل يخترقني من الداخل الى اعمق مكان
في جسدي.
ذاكرتي مليئة بأصوات صراخها كالوحوش.
ارتمت اخيرا بين يدي ونامت كالطفلة خلال ثوان
سريعة، عدت بها الى المنزل ايضا سيرا على الأقدام، وضعتها على سريرها كالطفلة، وفي
اليوم التالي كانت قد نست ما حصل البارحة، واعادت الكرّة حينما اكتشفت ان الرسائل
مرسلة لها.
بعد عام من تلك الحوادث المكررة سألتني فجأة
"لمَ لا اتذكر كوني في المدرسة؟"
أول مرة تسألني هذا السؤال، فهي لا تركز على
مثل هذه الاشياء، جاوبتها بعد تفكير عميق
"لأنك لا تتذكرين" نعم هذا كان
الجواب المختصر.
"ولم لا أتذكر"
"لأنك باختصار شديد مصابة بمرض نادر
جدا، فقدان الذاكرة، تعيشين يومك بكامله، بكله، حلوه ومره، تعيدين نفس الطقوس كل
يوم، الثامنة صباحا موعدك، اربعة اكواب قهوة في نفس الساعة كأن كل كوب هو الأول
بالنسبة لك، ثم تستحمين اربعة مرات، وكأن كل مرة هي الأولى، ثم نذهب الى الشاطئ،
تسبحين ثلاث مرات وفي كل مرة تسألينني لم أنا مبللة بالكامل لكنني لا اجاوب لأن لا
جواب لدي، ثم تجلسين بالساعات على الرمال لتكتبي على ورق احمر اللون، وتضعينها في
زجاجة ثم ترمينها في البحر، وفي اليوم التالي تقرأينها كأنها رسالة عاشق الى
حبيبته...."
ابتسمت كتونيا ابتسامة تحمل معان كثيرة لكنني
اشعر بالحيرة الآن، لم تلك الإبتسامة غير المفسرة.
ولا اجد الجواب لحيرتي...ترمقني بغضب ثم تحمل
نفسها الى غرفتها، تحبس نفسها هناك، اسمع صوت بكاء خافت، ثم صراخ عميق، ثم لا شيء.
بعد نصف ساعة طرقت بابها لعلهه تفتح لي لكن
لا رد.
اطرق عشر مرات "كتونيا افتحي لي
الباب"..لا رد من كتونيا.
حتى كسرت الباب، لأجدها ممدة على الأرض،
جسدها بارد، وبيدها سكين حاد جدا....
إني اراها امامي ميتة، دون روح ودون نفس، لكن
بكل برود جلست بجانبها على الأرض، مسكت يدها، حضنتها بلطف، ابتسمت وقلت
"اخيرا، حان موعدي انا لأتحرر ..."
تركتها على الارض ...دخلت وضبت ملابسي،
وخرجت....وبعد ان اغلقت الباب وركبت سيارتي وتحركت، هاتفي يرن معلنا بان المتصل
يلح علي لأرد.
وصوتها يأتيني من الطرف الآخر.
لكنني اتوهم، لقد شعرت بان جسدها بارد..
رميت هاتفي على المقعد بجانبي ثم اكملت طريقي
خارج المدينة.
مضى عاما كاملا وانا حر، الى أن رأيتها، تجلس
على كراسي احد المقاهي المطلة على الشارع، بيدها الكوب الرابع لربما ولربما
العاشر، تسمع موسيقى او شيء ما على الهاتف، لا ليست هي إني اتوهم فقط.
مرت من امامي حافلة قطعت عني الرؤية لدقيقة،
وبعد رحيل الحافلة لم اجدها، بحثت عنها في الانحاء وسألت العابرين إن كان هناك أحد
قد رأها، لكن الرد نفياً.
وفجأة شعرت بيد تطبق على كتفي بقوة
"راكان، انت موقوف أخيرا"
"وبأي تهمة؟"
"تهمة قتل شقيقتك كتونيا يا راكان، تفضل
معي دون إحداث أي ضجة"
سرت برفقة الضابط الى مركز الشرطة، واكتشفت
هناك انني قاتل، لم لا اعرف اي شيء، لم لست واعيا بما يقوله لي الشرطي هنا، إن فمه
يتحرك، لكنني لا اسمع اي شيء مما يقوله.
"قبل اربعة اعوام كنت قد قتلت شقيقتك
كتونيا على الشاطئ حينما كانت تكتب مع نفسها حسب شاهد عيان قد رأها برفقتك أخر
مرة، وقال أنك اخرجت من جيبك سكينا حادا ونحرتها بكل برود، وحسب شاهد العيان ان
الدماء امتزجت بورقها حتى صار لون الورق أحمر.....ومن يومها وأنت تزور نفس
المكان...."
"هل هذه خدعة ما! لأن كتونيا انتحرت
حينما عرفت الحقيقة بأنها فاقدة للذاكرة"
"لا ليست خدعة، لقد كنا نبحث عنك طويلا
في المدينة الى ان وجدناك هنا..."
"والآن ماذ، هل سوف أسجن طويلا"
ابتسم الشرطي "بل الى الابد"
ثم قيدني وسحبني نحو الزنزانة الى الأبد.
بينما انا اسير برفقة الشرطي بالتصوير
البطيء، سمعت صوت صراخها الذي سمعته منها حينما اكتشفت الحقيقة.
عندها تذكرت يوم مقتلها على يدي، كانت تصرخ
بقوة وهي تقاومني وتذكرت ما قلته لها "إنني سوف ارتاح اخيرا منك..كتونيا لقد
مللت منك...إنني اعيش في ذنب طويل طويل جدا....لقد تخلصت من والدتنا، هل تذكرين
كيف، لقد نحرت عنقها ، تماما كما سأفعل بك....وللأسف، لم تسنح لها الفرصة لترى
مقتلها، إنك في المكان الذي تحبينه، على الرمال الباردة يا كتونيا، وبيدك زجاجتك
المفضلة التي تسمينها مذكراتك....وسوف يمتزج الورق بالدم...وسوف تصبحين قصة منتهية
الى الأبد.."
انتهت الذكرى هنا، حيث توقفنا امام باب
الزنزانة العريض، اسود اللون، ممزوج بملامح كتونيا التي رأيتها أخر مرة.
كانت تبكي بحرقة، بألم ومقاومة ضعيفة.
ادخلني الشرطي الى الزنزانة الضيقة من الداخل
برغم ان بابها عريض، لكنه سوف يشعرني لاحقا بمدى تفاهتي .
كيف كانت إذن تلك الاعوام، وكيف كنت اعيش
يومي على ان كتونيا معي وتكرر نفس التصرفات اكثر من مرة.
لكن على ما يبدو أنني انا الذي كنت فاقد
للوعي، للذاكرة وللعقل، انا الذي لم اكن بكامل وعيي.
قتلتها بدم بارد وصرت في كل يوم منذ مقتلها
اذهب الى حيث اعتدنا الجلوس حيث قتلتها، واكتب بنفس تلك الورقة الحمراء
وارميها.....كل تلك الاحداث كنت ارى فيها كتونيا.
كنت انا راكان وكتونيا..ورسائل كتونيا.
اذكر آخر رسالة قرأتها على ان القارئ هو
كتونيا
"إن اخي اليوم كاد ان يقتلني، فهو قد
بدأ يهذي ليلا كثيرا، وقصصه الليلية مرعبة جدا، يحكي لي الكثير من قصص القتل التي
تملؤها الدماء، حيث يتلاشى كل شيء الى العدم...إن راكان قاتل على ما اعتقد لكنه لا
يشعر...سوف تكون هذه أخر رسالاتي لك يا كتونيا...الوداع يا حبيبتي..فكما ذهبت
والدتي سوف تذهبين أنت واذهب انا حيث اللاعودة."